فصل: فَصل: الموالاة في الوضوء

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **


/وقال شيخ الإسلام أحمد بن تيميه ـ رحمه الله‏:‏

 فَصْل

الموالاة في الوضوء فيها ثلاثة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ الوجوب مطلقا، كما يذكره أصحاب الإمام أحمد وهو ظاهر مذهبه، وهو القول القديم للشافعي، وهو قول في مذهب ‏[‏مالك‏]‏‏.‏‏.‏‏.‏

والثاني‏:‏ عدم الوجوب مطلقا، كما هو مذهب أبي حنيفة، ورواية عن أحمد، والقول الجديد للشافعي‏.‏

والثالث‏:‏ الوجوب إلا إذا تركها لعذر، مثل عدم تمام الماء، كما هو المشهور في مذهب مالك، وهو قول في مذهب ‏[‏أحمد‏]‏‏.‏‏.‏‏.‏

قلت‏:‏ هذا القول الثالث هو الأظهر والأشبه بأصول الشريعة،/ وبأصول مذهب أحمد وغيره، وذلك أن أدلة الوجوب لا تتناول إلا المفرط، لا تتناول العاجز عن الموالاة، فالحديث الذي هو عمدة المسألة الذي رواه أبو داود وغيره عن خالد بن مَعْدَان، عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏أنه رأي رجلا يصلي ـ وفي ظهر قدمه لمعة قدر الدرهم لم يصبها الماء ـ فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يعيد الوضوء والصلاة‏.‏ فهذه قضية عين، والمأمور بالإعادة مفرِّط؛ لأنه كان قادرا على غسل تلك اللمعة كما هو قادر على غسل غيرها، وإنما بإهمالها وعدم تعاهده لجميع الوضوء بقيت اللمعة، نظير الذين كانوا يتوضؤون وأعقابهم تلوح فناداهم بأعلى صوته‏:‏ ‏(‏ويل للأعقاب من النار‏)‏‏.‏وكذلك الحديث الذي في صحيح مسلم عن عمر‏:‏أن رجلا توضأ فترك موضع ظفر على قدمه، فأبصره النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ ‏(‏ارجع فأحسن وضوءك‏)‏ فرجع ثم صلي‏.‏ رواه مسلم‏.‏

فالقدم كثيرا ما يفرط المتوضئ بترك استيعابها، حتى قد اعتقد كثير من أهل الضلال أنها لا تغسل، بل فرضها مسح ظهرها عند طائفة من الشيعة، والتخيير بينه وبين الغسل عند طائفة من المعتزلة، الذين لم يوجبوا الموالاة، عمدتهم في الأمر حديث عن ابن عمر‏:‏ أنه توضأ، ‏[‏فغسل وجهه ويديه‏.‏ ثم دعي لجنازة ليصلي عليها حين دخل المسجد، فمسح على خفيه ثم صلي عليها‏]‏‏.‏

/موالاة لفقد تمام الماء، وأصول الشريعة تدل على ذلك، قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ‏}‏ ‏[‏التغابن‏:‏ 16‏]‏، وقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم‏)‏‏.‏

والذي لم يمكنه الموالاة ـ لقلة الماء، أو انصبابه، أو اغتصابه منه بعد تحصيله، أو لكون المنبع أو المكان الذي يأخذ منه هو وغيره ـ كالأنبوب أو البئر ـ لم يحصل له منه الماء إلا متفرقا تفرقا كثيرا ونحو ذلك‏:‏ لم يمكنه أن يفعل ما أمر به إلا هكذا بأن يغسل ما أمكنه بالماء الحاضر‏.‏ وإذا فعل ذلك ثم غسل الباقي بماء حصله فقد اتقي اللّه ما استطاع، وفعل ما استطاع مما أمر به‏.‏ يبين ذلك أنه لو عجز عن غسل الأعضاء بالكلية لعدم الماء لسقط عنه ولكان فرضه التيمم، ولو قدر على غسل بعضها فعنه ثلاثة أقوال‏:‏

قيل‏:‏ يتيمم فقط، لئلا يجمع بين بدل ومُبْدَل‏.‏

وقيل‏:‏ يستعمل ما قدر عليه ويتيمم للباقي‏.‏ وهو المشهور في مذهب أحمد وغيره‏.‏

وقيل‏:‏ بل يستعمل ذلك في الغسل دون الوضوء كما يذكر عن أبي بكر‏.‏ وهو مبني على وجوب الموالاة في الوضوء دون الغسل‏.‏

/قال صاحب هذا القول‏:‏ فينتفع باستعمال البعض في الغسل دون التيمم‏.‏ وضعفوا ذلك بأنه يفعل المقدور عليه، فَعُلم بذلك أن هذا عندهم طهارة نافعة عند العجز في الوضوء كما هي نافعة في الغسل‏.‏ وإذا كان كذلك، لم يجب عليه ـ عند القدرة على الماء ـ إعادة ما غسله من أعضاء الوضوء، كما لا يجب عليه إعادة ما صلاه بالتيمم، وكما لا يجب عليه إعادة ما غسل في الغسل على المشهور عند أصحاب أحمد من الفرق بين الوضوء والغسل كما سنذكره ـ إن شاء اللّه ـ وذلك لأنه قد فعل ما أمر به كما أمر، ومن كان ممتثلا الأمر أجزأ عنه فلا إعادة عليه‏.‏

يوضح هذا أنه في حال العجز لم يكن مأموراً بغسل العضو الثاني، وإنما يؤمر بتحصيل الطهور الذي يتمكن به من غسله أو بتأخره إلى القدرة وهو قادر على غسل العضو الأول ـ وهو المستطاع من المأمور ـ فعليه فعله، كما لو قدر على غسل بعض الأعضاء أو بعض العضو الواحد دون بعض، فإن عليه غسله، كالمقطوع يده من بعض الذراع‏.‏

وطرد ذلك ما ذكرناه لو كان ببعض أعضائه ما يمنع الوجوب من جرح أو مرض أو غير ذلك فغسل الصحيح، ثم قدر أن الألم زال وقد نشف ذلك العضو‏:‏ فإنه إذا غسل الباقي فقد فعل المقدور عليه‏.‏

/وأيضاً، فالترتيب واجب في صوم الشهرين بنص القرآن والسنة والإجماع، ثم اتفق المسلمون على أنه إذا قطع لعذر لا يمكن الاحتراز منه ـ كالحيض ـ فإنه لا يقطع التتابع الواجب‏.‏

ومذهب أحمد في هذا أوسع من مذهب غيره‏:‏ فعنده إذا قطع التتابع لعذر شرعي لا يمكن مع إمكان الاحتراز منه ـ مثل أن يتخلل الشهرين صوم شهر رمضان، أو يوم الفطر، أو يوم النحر، أو أيام مني، أو مرض أو نفاس، ونحو ذلك ـ فإنه لا يمنع التتابع الواجب، ولو أفطر لعذر مبيح كالسفر فعلى وجهين‏.‏ فالوضوء أولي إذا ترك التتابع فيه لعذر شرعي وإن أمكن الاحتراز منه‏.‏

وأيضاً، فالموالاة واجبة في قراءة الفاتحة، قالوا‏:‏ إنه لو قرأ بعضها وسكت سكوتا طويلا لغير عذر، كان عليه إعادة قراءتها‏.‏ ولو كان السكوت لأجل استماع قراءة الإمام، أو لو فصل بذكر مشروع ـ كالتأمين ونحوه ـ لم تبطل الموالاة، بل يتم قراءتها ولا يبتدئها ومسألة الوضوء كذلك سواء، فإنه فرق الوضوء لعذر شرعي‏.‏ ومعلوم أن الموالاة في الكلام أوكد من الموالاة في الأفعال‏.‏

وأيضاً، فالمنصوص عن أحمد في العقود كذلك‏.‏ فإن الموالاة بين الإيجاب والقبول واجبة بحيث لو تأخر القبول عن الإيجاب ـ حتى/خرجا من ذلك الكلام إلى غيره، أو تفرقا بأبدانهما، فلابد من إيجاب ثان، وقد نص أحمد على أنه إذا أوجب النكاح لغائب وذهب اليه الرسول فقبل في مجلس البلاغ، أنه يصح العقد، فظن طائفة من أصحابه أن ذلك قول منه ثان‏:‏ بأنه يصح تراخي القبول مطلقاً وإن كانا في مجلس واحد بعد تفرقهما وطول الفصل، وهي الرواية التي ذكرت في مثل الهداية والمقنع والمحرر وغيرها‏:‏ أنه يصح في النكاح ولو بعد المجلس‏.‏

وذلك خطأ كما نبه عليه الجد ـ فيما أظن ـ في كتابه الكبير، ولا فرق في ذلك بين النكاح والبيع والإجارة، والفرق بين الصورتين ظاهر، ويذهب إلى الفرق‏:‏ غيره من الفقهاء، كأبي يوسف وغيره‏.‏ وهذا التفريق من أحسن الأقوال، ويشبه أن يكون المنصوص عنه في الوضوء كذلك، لكني لم أتأمل بعد نصه في الوضوء‏.‏ فإنه كثيراً ما يحكي عنه روايتان في مثل ذلك ويكون منصوصه التفريق بين حال وحال، ويكون هو الصواب، كمسألة إخراج القيم، ومسألة قتل الموصي‏.‏

وأيضاً، فالموالاة في الطواف والسعي أوكد منه في الوضوء، ومع هذا، فتفريق الطواف لمكتوبة تقام، أو جنازة تحضر ثم يبني على الطواف ولا يستأنف، فالوضوء أولي بذلك‏.‏ وعلى هذا، فلو توضأ بعد/ الوضوء ثم عرض أمر واجب يمنعه عن الإتمام ـ كإنقاذ غريق، أو أمر بمعروف ونهى عن منكر ـ فعله ثم أتم وضوءه، كالطواف وأولي‏.‏ وكذلك لو قُدِّر أنه عرض له مرض منعه من إتمام الوضوء‏.‏

وأيضاً، فإن أصول الشريعة تفرق في جميع مواردها بين القادر والعاجز والمفرط والمعتدي، ومن ليس بمفرط ولا معتد‏.‏ والتفريق بينهما أصل عظيم معتمد، وهو الوسط الذي عليه الأمة الوسط، وبه يظهر العدل بين القولين المتباينين‏.‏

وقد تأملت ما شاء الله من المسائل التي يتباين فيها النزاع نفياً وإثباتاً حتى تصير مشابهة لمسائل الأهواء، وما يتعصب له الطوائف من الأقوال، كمسائل الطرائق المذكورة في الخلاف بين أبي حنيفة والشافعي وبين الأئمة الأربعة، وغير هذه المسائل، فوجدت كثيراً منها يعود الصواب فيه إلى الوسط، كمسألة إزالة النجاسة بغير الماء، ومسألة القضاء بالنكول، وإخراج القيم في الزكاة، والصلاة في أول الوقت، والقراءة خلف الإمام، ومسألة تعيين النية وتبييتها، وبيع الأعيان الغائبة واجتناب النجاسة في الصلاة ومسائل الشركة، كشركة الأبدان، والوجوه، والمفاوضة، ومسألة صفة القاضي‏.‏

وكذلك هو الأصل المعتمد في المسائل الخبرية العلمية التي تسمي/ مسائل الأصول، أو أصول الدين، أو أصول الكلام، يقع فيها اتباع الظن وما تهوي الأنفس‏.‏ وقد قررنا ـ أيضا ـ ما دل عليه الكتاب والسنة فيها وفي غيرها من الفرق بين المؤمن باطنا وظاهراً؛ وبين المنافق الزنديق المؤمن ظاهراً لا باطنا‏.‏ وأن المؤمنين قد عفي لهم عن الخطأ والنسيان، ثم غالب الخلاف المتباين فيها يعود الحق فيه إلى القول الوسط في مسائل التوحيد والصفات، ومسائل القدر والعدل، ومسائل الأسماء والأحكام، ومسائل الإيمان والإسلام، ومسائل الوعد والوعيد، ومسائل الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر والخروج على الأمراء ومذاهبهم، أو موافقتهم على طاعة اللّه، فأمرهم ونهيهم بحسب الإمكان والامتناع عن الخروج والفتن‏.‏ وأمثال هذه الأهواء‏.‏

وأيضا، فعمدة القياس في مسألة الترتيب والموالاة إنما هو قياس ذلك على الصلاة، فإن الصلاة يجب فيها الترتيب، فلا يجوز تقديم السجود على الركوع‏.‏ وتجب فيها الموالاة، فلا يفرق بين أبعاضها بما ينافيها‏.‏ والصلاة ـ مع هذا ـ عبادة واحدة متصلة الأجزاء، ليس بين أجزائها فصل أصلا حتى يمكن في ذلك المتابعة أو التفريق، ثم مع ذلك إذا فرق بينهما لعذر كالعمل الكثير لضرورة كما في حديث ابن عمر‏:‏ ‏(‏أن الطائفة الأولى بعد صلاة ركعة تذهب وجاه العدو، فإذا صلت الثانية الركعة الثانية، ذهبت ـ أيضاً ـ إلى وجاه العدو، ثم رجعت/الأولى إلى موقفها فأتمت الصلاة ثم الثانية‏)‏ والصفة في الصحيحين‏.‏ وهي جائزة غير مكروهة عند أئمة الحديث كأحمد وغيره، وهي الصلاة المختارة في الخوف عند أبي حنيفة؛ إذ ليس فيها مخالفة لصلاة الأمن إلا في استدبار القبلة والعمل الكثير، وهذان يجوزان للعذر كمن سبقه الحدث، فإنه عند أكثر العلماء ـ كأبي حنيفة، ومالك، وقول الشافعي وأحمد في إحدي الروايات ـ يقول‏:‏ إنه يتوضأ ويبني على ما مضي إذا لم تبطل صلاته بكلام عمد ونحوه، وهذا مأثور عن أكثر الصحابة وفيه حديثان مرسلان عن النبي صلى الله عليه وسلم، والمرسل إذا عمل به جمهور الصحابة يحتج به الشافعي وغيره‏.‏

وأيضاً، فإذا سلم من صلاته ساهيا ـ كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ذي اليدين، وفصل بين أبعاض الصلاة بالقيام إلى الخشبة والاتكاء عليها، وتشبيك أصابعه، ووضع خده عليها، والكلام منه ومن المنبه له السائل له المخبر له أنه لم ينس ولم تقصر، والمجيبين له الموافقين للمنبه، ثم أتم الصلاة، لم يكن هذا التفريق والفصل مانعاً من الإتمام‏.‏

ومعلوم أنه لو فعل ذلك عمداً، لأبطل الصلاة بلا نزاع، فإذا كانت الصلاة التي لم تشرع إلا متصلة لا يستوي تفريقها في حال العذر وعدمه، فكيف يستوي تفريق الوضوء في حال العذر وعدمه‏؟‏ مع أن الوضوء/أفعال منفصلة لا يجب اتصالها بالاتفاق، وليس لقائل أن يقول‏:‏ إذا عمل عملاً كثيراً لعذر، كما في صلاة الخوف، والساهي إذا سلم فإنه في حكم المصلي، بدليل أنه لو تعمد حينئذ الحدث أو الكلام المبطل، أو العمل الكثير الذي لا يحتاج اليه أو استدبار القبلة الذي لا يحتاج اليه، أو كشف العورة، بطلت صلاته‏.‏ ولو كان في غير صلاة لم تبطل صلاته بذلك، فلا يكون هذا تركا للموالاة الواجبة؛ لأنه يقال‏:‏ بل هذا من أوكد الأدلة على ما قلناه، فإنه من المعلوم أن هذه الأفعال والفصل الطويل المعفو له عنه ـ مثل الذهاب إلى العدو ثم الرجوع إلى موقفه، ومثل قيام المسلم سهواً إلى ناحية المسجد واتكائه عليه ـ ليس هو من أفعال الصلاة الواجبة ولا المستحبة، ولا داخلاً في ذلك كما يدخل ما يدخل في تطويل القيام، والركوع، والسجود، والقعود، فإن هذه الأربعة من جنس أفعال الصلاة، فإذا أطالها أو أدخل فيها ما لا يشرع في الصلاة من العمل اليسير،لم يمنع أن تكون هي من الصلاة‏.‏

وأما تلك فليست من أفعال الصلاة، وإنما أمر المصلي بالعمل الكثير في صلاة الخوف لأجل الجهاد، وغفر له عن نحو ذلك من السهو لأن الله تجاوز لهذه الأمة عن الخطأ والنسيان، فصار الفصل بين أبعاض الصلاة المتتابع ـ تارة بفعل يوجب تغييرها، وتارة بفعل لا جناح على فاعله/لكونه ليس مكلفاً بتركه ـ يشبهه الفصل بين الصيام المتتابع‏:‏ تارة بصوم أو فطر واجب، وتارة بحيض أو نفاس، أو مرض يعجز معه عن الصوم‏.‏

ولهذا طرد أحمد ذلك، ولو وقع هذا التفريق لغير عذر أبطل الصلاة بالاتفاق، فالوضوء أولي ألا يسوي بين تفريقه لعذر ولغير عذر‏.‏ وأما كونه في حكم المصلي فمعنى ذلك أنه ليس له أن يفرق الصلاة إلا بما يعفي عنه فيه، فإذا أتي بما ينافيها ـ من كلام عمد، أو عمل كثير، أو استدبار قبلة لغير عذر ـ كان قد فصل بين أبعاضها وفرق بينها بما ينافيها لغير عذر، فتبطل صلاته، كما لو صلي ركعتين فسلم عمدا، فإنه ليس له أن يأتي بالركعتين الأخيرتين، بل يستأنف الصلاة، ولو سلم سهواً بني على الأول، بالسنة المتواترة عند العلماء واتفاقهم على ذلك‏.‏ والمسلم إنما هو خارج من الصلاة وزائد على الفعل المأمور به، فإذا فعل ذلك عمداً لم يكن له ذلك، ولا محذور في ذلك إلا قطع الصلاة، ألا تري أنه لا فرق بين الوتر بثلاثة متصلة وثلاث يفصل فيها بين الشفع والوتر‏:‏ إلا بمجرد الفصل‏؟‏

ولهذا يقولون‏:‏ يفصل بين الشفع والوتر بتسليمة، أو لا يفصل بتسليمة‏.‏ فمن أهل العراق من لا يسوغ الفصل كالمغرب؛ ويجعل وتر الليل لا يكون إلا كوتر النهار متصلا غير منفصل‏.‏ ومن أهل الحجاز من لا يسوغ إلا الفصل؛ لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏صلاة الليل/ مثني مثني، فإذا خشيت الصبح فأوتر بركعة‏)‏‏.‏

وفقهاء أهل الحديث يختارون الفصل لصحة الآثار وكثرتها به، وإن جوزوا الوصل‏.‏

والمقصود هنا أنهم لا يذكرون بين صورتي الوتر فرقاً‏:‏ إلا كون هذا متصلا وهذا منفصلا‏.‏ وهذا هو الموالاة والتفريق، فتبين أن السلام العمد إنما أبطل الصلاة المكتوبة ونحوها مما سنته الاتصال؛ لأجل تفريق بعض الصلاة عن بعض، وهو إذا فعل ذلك سهواً لم تبطل، وكل ما ينافي الصلاة ـ من فعل أو عمل كثير، أو تعمد كلام، وترك شرط من شروطها ـ من استقبال القبلة أو ستر عورته ونحو ذلك ـ فإنه ـ مع منافاته ـ يفرق بين أبعاض الصلاة، ويمكن أن يخرج منها كما يخرج بالسلام؛ ولهذا ذهب بعض أهل العراق إلى أنه يخرج منها بكل ما ينافيها كما يخرج بالسلام، لكن فقهاء الحديث وأهل الحجاز منعوا ذلك، لقول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏مفتاح الصلاة الطُّهور وتحريمها التكبير وتحليلها التسليم‏)‏، ولغير ذلك من الأمور التي يتبين أنه لا يدخل فيها إلا بالمشروع، ولا يخرج إلا بالمشروع‏.‏

ومما يوضح الكلام في هذا أمور‏:‏

أحدها‏:‏ أن من يجوز الوتر بثلاث مفصولة ـ كالشافعي وأحمد/وغيرهما ـ يجوز عندهم أن تكون الصلاة التي لها اسم واحد يفصل بين أبعاضها بالسلام العمد، كالوتر والضحي، وقيام رمضان، والأربع قبل الظهر، واختيارهم في جميع الصلوات أن تكون مثني مثني‏:‏ إلا ما استثناه أحمد من الصور التي ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم فيها الفصل، كالوتر بخمس أو سبع أو تسع، فإنه يختار فيها ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم فعله، ويقولون‏:‏ أدني الوتر ثلاث مفصولة وقد ثبت في الصحيح من غير وجه عن عائشة‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يوتر من الليل بإحدي عشرة ركعة، يفصل بين كل ركعتين، فسمت الجميع وتراً مع الفصل‏.‏

وقد ينازعهم في هذا أصحاب أبي حنيفة؛ إذ المسنون عندهم في الأربع قبل الظهر الوصل، وكذلك في الوتر بثلاث، وكذلك إذا جاء ذكر صلاة أربع أو ثمان، يجعلونها بتسليمة‏.‏

الثاني‏:‏ إذا تكلم بعد سلامه من الصلاة سهواً كما في حديث ذي اليدين، فقد علم ما فيه من الفقه، والمنازع يقول‏:‏ هو منسوخ، كما يقوله أصحاب أبي حنيفة وطائفة من أصحاب أحمد‏:‏ كالقاضي أبي يعلى، وهم الذين يقولون‏:‏ إن الكلام يبطل الصلاة مطلقا، ولو كان بعد السلام سهواً بناء على أنه في الصلاة‏.‏

والجمهور على أنه محكم، وهو الصواب وهو المنصوص عن أحمد في/ عامة أجوبته، فإنه أخذ به وتفقه فيه، ولم يترك الأخذ به ولا قال هو منسوخ‏.‏ وقد ثبت أن المشهور بروايته الذي ذكر أنه صلاها مع النبي صلى الله عليه وسلم هو أبو هريرة، قال‏:‏ وذكر فيها‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم صلي بهم الصلاة، وهو إنما سلم ورأي النبي صلى الله عليه وسلم، وصلي خلفه من عام خيبر، والقضية كانت في مسجده، وذلك بعد رجوعه من خيبر بيقين، وهذا يقين بعد تحريم الكلام، فإنه قد ثبت في الصحيحين عن ابن مسعود أنه قال‏:‏ كنا نسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في الصلاة فيرد علينا، فلما رجعنا من عند النجاشي سلمت عليه فلم يرد على، فقلنا‏:‏ يا رسول الله، إنا كنا نسلم عليك في الصلاة فترد علينا‏؟‏ فقال‏:‏ ‏(‏إن في الصلاة شغلا‏)‏‏.‏

فهذا يبين أن الكلام حرم عليهم لما رجعوا من عند النجاشي، وعبد الله بن مسعود شهد بدراً مع النبي صلى الله عليه وسلم بلا خلاف وهو الذي أجهز على أبي جهل ابن هشام، فهذا يقتضي أن تحريم الكلام قبل بدر، سواء كان ابن مسعود رجع من الحبشة إلى مكة ثم هاجر، أو قدم من الحبشة إلى المدينة بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم، فإن هذا قد تنوزع فيه‏:‏ فذكر ابن إسحاق في السيرة القول الأول، وعلى هذا فيكون تحريم الكلام بمكة، وهو مقيد كما في/ مسند أبي داود الطيالسي، عن عبد اللّّه بن عقبة، عن ابن مسعود قال‏:‏ بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي ـ ونحن ثمانون رجلا، ومعنا جعفر بن أبي طالب ـ فذكر الحديث في دخولهم على النجاشي، وفي آخره‏:‏ فجاء ابن مسعود فبادر فشهد بدراً‏.‏

وللناس في هذا المقام المشتبه ثلاثة أقوال يقولها من يقولها من أصحاب أحمد وغيرهم‏:‏

أحدها ـ وهو قول أصحاب أبي حنيفة، والقاضي أبي يعلى، وطائفة من أتباعهم ـ‏:‏ أن حديث ذي اليدين متقدم على تحريم الكلام وظنوا أن قضيته كانت قبل بدر، واحتجوا بأن ذا اليدين قتل يوم بدر فلابد أن تكون القضية قبل ذلك، قالوا‏:‏ وتحريم الكلام كان بالمدينة بعد ذلك كما في الصحيحين عن زيد بن أرقم قال‏:‏ إن كنا لنتكلم في الصلاة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، يكلم أحدنا صاحبه بحاجته، حتى نزلت‏:‏ ‏{‏حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى وَقُومُواْ لِلّهِ قَانِتِينَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏238‏]‏، فأمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام؛ وليس للبخاري‏:‏ ونهينا عن الكلام، وفي رواية للترمذي‏:‏ كنا نتكلم خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصلاة‏.‏

وزيد بن أرقم من صغار الأنصار، وهو صاحب الأذن الذي وفي/ الله بأذنه لما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم قول ابن أبي مـن المنافقين‏:‏ ‏{‏لَئِن رَّجَعْنَا إلى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ‏}‏ ‏[‏المنافقون‏:‏ 8‏]‏ وكذبه من كذبه ولامه من لامه من المؤمنين، حتى أنزل الله قوله‏:‏ ‏{‏يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَا إلى الْمَدِينَةِ‏}‏ ‏[‏المنافقون‏:‏ 8‏]‏، فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏هذا الذي وفي الله بأذنه‏)‏ وهو لم يصل مع النبي صلى الله عليه وسلم إلا بعد الهجرة فعلم أنهم كانوا يتكلمون بعد الهجرة، وذكر أن النسخ حصل بآية المحافظة ـ وهي مدنية بالاتفاق ـ بل قد يقال‏:‏ إنها إنما نزلت عام الخندق لما شغله المشركون عن صلاة العصر، حتى قال‏:‏ ‏(‏ملأ الله قبورهم وبيوتهم ناراً كما شغلونا عن الصلاة الوسطي صلاة العصر‏)‏، كما ثبت ذلك في الصحيح، فقال هؤلاء‏:‏ إذا كانت قصة ذي اليدين قبل بدر ولم يثبت أن الكلام كان قد حرم، أو ثبت أنه إنما حرم بعد ذلك بل بعد عام الخندق التي هي بعد بدر بأكثر من سنتين، كان منسوخا‏.‏ وأقصي ما يقال‏:‏ إنه يحتمل أنه كان قبل النسخ، ويحتمل أنه بعده، فلا يبقي فيه حجة‏.‏

ونجد كثيراً من الناس ـ ممن يخالف الحديث الصحيح من أصحاب أبي حنيفة أو غيرهم ـ يقول‏:‏ هذا منسوخ، وقد اتخذوا هذا مجنة، كل حديث لا يوافق مذهبهم يقولون‏:‏ هو منسوخ من غير أن يعلموا أنه منسوخ، ولا يثبتوا ما الذي نسخه‏.‏

/وكذلك كثير ممن يحتج بالعمل من أهل المدينة ـ أصحاب مالك وغيرهم ـ يقولون‏:‏ هذا منسوخ، لكن هؤلاء قد يقولون‏:‏ إن وجود عمل أهل المدينة بخلافه دليل نسخه، وهذا كثير‏.‏ وما ذكروه في حديث ذي اليدين هو من أبلغ ما قرروه، وادعوا أن تحريم الكلام كان بعد ذلك عام الخندق أو نحوه، ويقولون في القنوت‏:‏ إنه منسوخ‏.‏ وفي دعائه ـ لمعين أو غير معين ـ‏:‏ إنه منسوخ، وإن هذا من كلام الآدميين الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الآدميين‏)‏ حتى يبالغوا فيما يبطل الصلاة من هذا النحو، كالتنبيه بالقرآن وغيره‏.‏

وقد ثبت في الصحيحين ـ أيضاً ـ عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قنت بعد الركوع في صلاة الصبح شهراً إذا قال‏:‏ ‏(‏سمع الله لمن حمده‏)‏، يقول في قنوته‏:‏ ‏(‏اللهم نج الوليد بن الوليد اللهم نج سلمة بن هشام‏!‏ اللهم نج عياش بن أبي ربيعة، اللهم نج المستضعفين من المؤمنين، اللهم اشدد وطأتك على مضر، اللهم اجعلها عليهم سنين كسني يوسف‏)‏ قال أبوهريرة‏:‏ ثم رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ترك الدعاء لهم بعد، فقلت‏:‏ أري رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ترك الدعاء لهم، قال‏:‏ فقيل‏:‏ أو ما تراهم قد قدموا‏؟‏

وهذا الحديث فيه أنواع من الفقه،فإن أبا هريرة لم يصل خلف/النبي صلى الله عليه وسلم إلا بعد خيبرـ وخيبر بعد الحديبية ـ وكانت الهدنة التي بينه وبين المشركين في الحديبية على ألا يدع أحداً منهم يهاجر اليه، ولا يرد اليه من ذهب مرتداً منه اليهم، فهؤلاء وأمثالهم كانوا من المستضعفين بمكة الذين قهرهم أهلوهم، والمسلمون كلهم من بني مخزوم، وهم بنو عبد مناف أشرف قبائل قريش، وبنو مخزوم كانوا هم الذين ينادون عبد مناف، والمحاسدة التي بينهم هي إحدي ما منعت أشرافهم ـ كالوليد وأبي جهل وغيرهما ـ من الإسلام، فلما قدم بعد الحديبية من قدم من المهاجرين، ولحقوا بسيف البحر على الساحل ـ كأبي بصير، وأبي جندل بن سهيل بن عمرو ـ فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يجرهم بالشرط، فصاروا بأيدي أنفسهم بالساحل يقطعون على أهل مكة، حتى أرسل أهل مكة حينئذ إلى النبي صلى الله عليه وسلم يسألونه أن يأذن لهم في المقام عنده ليأمنوا قطعهم، فقدموا حينئذ أولئك المستضعفون، فترك النبي صلى الله عليه وسلم القنوت‏.‏

وهذا القنوت بعد القنوت الذي رواه أنس‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم قنت شهراً يدعو على رعل، وذكوان، وعصية، ثم تركه، فإن ذلك القنوت كان في أوائل الأمر لما أرسل القراء السبعين ـ أصحاب بئر معونة ـ وذلك متقدم قبل الخندق التي هي قبل الحديبية كما/ثبت ذلك في الصحيح، فتبين أن تركه للقنوت لم يكن ترك نسخ؛ إذ قد ثبت أنه قنت بعد ذلك، وإنما قنت لسبب، فلما زال السبب ترك القنوت، كما بين في هذا الحديث أنه ترك الدعاء لهم لما قدموا‏.‏ وليس ـ أيضاً ـ قوله في حديث أنس المتفق عليه‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قنت شهراً بعد الركوع يدعو على أحياء من أحياء العرب ثم تركه، أنه ترك الدعاء فقط، كما يظنه من ظن أن النبي صلى الله عليه وسلم كان مداوماً على القنوت في الفجر بعد الركوع أو قبله، بل ثبت في أحاديث أنس التي في الصحيحين‏:‏ أنه لم يقنت بعد الركوع إلا شهراً، وغير ذلك مما يبين أن المتروك كان القنوت‏.‏

وقد بسطنا هذا في غير هذا الموضع، وبينا أن من تأمل الأحاديث علم علما يقينا أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يداوم على القنوت في شيء من الصلوات، لا الفجر ولا غيرها؛ ولهذا لم ينقل هذا أحد من الصحابة‏:‏ بل أنكروه‏.‏ ولم ينقل أحد عن النبي صلى الله عليه وسلم حرفا واحداً مما يظن أنه كان يدعو به في القنوت الراتب، وإنما المنقول عنه ما يدعو به في العارض‏:‏ كالدعاء لقوم وعلى قوم، فأما ما يدعو به من يستحب المداومة على قنوت الفجر من قول‏:‏ ‏(‏اللهم اهدنا فيمن هديت‏)‏، فهذا إنما في السنن أنه علَّمه للحسن يدعو به في قنوت الوتر‏.‏

/ثم من العجب أنه لا يستحب المداومة عليه في الوتر الذي هو من متن الحديث ويداوم عليه في الفجر، ولم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قاله في الفجر‏.‏ ومن المعلوم ـ باليقين الضروري ـ أن القنوت لو كان مما داوم عليه، لم يكن هذا مما يهمل، ولتوفرت دواعي الصحابة ثم التابعين على نقله، فإنهم لم يهملوا شيئاً من أمر الصلاة التي كان يداوم عليها إلا نقلوه، بل نقلوا ما لم يكن يداوم عليه‏:‏ كالدعاء في القنوت لمعين وعلى معين وغير ذلك‏.‏

ودعوي هذا ـ أيضاً ـ هي من بعض الوجوه ما يدعيه بعض أهل الأهواء في النص الجلي على معين في الإمامة، أو من زيادة في القرآن وغير ذلك؛ ولهذا كان المصنفون يفرقون بين بيان ما يمتنع من الكذب وما يمتنع من الكتمان‏.‏ فإذا تكلموا في الأخبار الصادقة التي يمتنع أن تكون كذبا من الأخبار المتواترة، تكلموا فيما يمتنع أن يكون من الأخبار للعادة العامة، أو الخاصة، أو للأدلة الشرعية الدالة على حفظ هذا الدين وأمثال ذلك، وبسط هذا له موضع آخر‏.‏

وأما الدعاء على أهل الكتاب ـ كما يتخذه من يتخذه سنة راتبة في دعاء القنوت في النصف الأخير من شهر رمضان أو غيره ـ فهذا إنما هو منقول عن عمر بن الخطاب أنه كان يدعو به لما كان يجاهد أهل الكتاب بالشام، وكان يدعو به في المكتوبة، وهو موافق لسنة رسول/الله صلى الله عليه وسلم، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقنت أحياناً، يدعو للمؤمنين ويلعن الكافرين، ويذكر قبائل المشركين الذين يحاربونه، كمضر، ورعل، وذكوان، وعصية، وعمر لما قاتل أهل الكتاب قنت عليهم في المكتوبة، فالسنة أن يقنت عند النازلة ويدعو فيها بما يناسب أولئك القوم المحاربين‏.‏ فأما أن يتخذ قنوت عمر في المكتوبة سنة في الوتر وقنوت الحسن في الوتر سنة في المكتوبة راتبة فهو كما تراه، وكذلك في هذا الحديث أنه دعا لأقوام سماهم بأسمائهم بعد خيبر، وذلك بعد تحريم الكلام بالاتفاق، وإن اقتضي ما يقال في تأخر تحريم الكلام في الصلاة أنه تأخر إلى عام الخندق، وخيبر بعد الخندق بأكثر من سنتين، فإن خيبر كانت بالاتفاق بعد الحديبية، والحديبية كانت بالاتفاق سنة ست، وكان النبي صلى الله عليه وسلم ـ أيضاً ـ إنما اعتمر في ذي القعدة، فلما صالحهم رجع إلى المدينة، فكانت غزوة الغابة ـ غزوة ذي قرد ـ التي ذكرها مسلم في صحيحه من حديث سلمة بن الأكوع لما جعل يقول‏:‏

خذها وأنــــا ابـــن الأكـــوع ** واليـــوم يــــوم الرضـــع

لما أغارت فزارة على لقاح رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت خيبر عقب ذلك في أواخر ست وأوائل سبع، وهذا متفق عليه‏.‏

وأما الخندق فقبل ذلك‏.‏ إما في أوائل خمس أو أواخر أربع، كما في الصحيحين عن عبد الله بن عمر قال‏:‏ عرضت على النبي/ صلى الله عليه وسلم يوم أحد وأنا ابن أربع عشرة سنة فلم يجزني‏.‏ وعرضت عليه يوم الخندق وأنا ابن خمس عشرة سنة فأجازني‏.‏

وليس لأحد أن يحتج على النسخ بما في الصحيحين عن ابن عمر أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رفع رأسه من الركوع في الركعة الأخيرة من الفجر يقول‏:‏ ‏(‏اللهم العن فلانا وفلانا وفلانا‏)‏ بعد ما يقول‏:‏ ‏(‏سمع الله لمن حمده‏:‏ ربنا ولك الحمد‏)‏، فأنزل الله‏:‏ ‏{‏لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذَّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ‏}‏‏)‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 128‏]‏، فإن هذا إنما يدل على ترك اللعنة لهم، لكونه ليس له من الأمر شيء لجواز توبتهم، وهذا إذا كان نهياً فلا فرق فيه بين الصلاة وخارج الصلاة، والكلام إنما هو في الدعاء الجائز خارج الصلاة، كالدعاء لمعينين مستضعفين، والدعاء على معينين من الكفار بالنصرة عليهم، لا باللعنة ونحو ذلك‏.‏

والقول الثاني‏:‏ قول من يقول ـ من أصحاب الشافعي وأحمد وغيرهم ـ‏:‏ إن تحريم الكلام كان بمكة بناء على أن النسخ ثبت بحديث ابن مسعود بناء على ما ذكره ابن اسحاق في السيرة قال‏:‏ وبلغ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين خرجوا إلى أرض الحبشة إسلام أهل مكة، فأقبلوا لما بلغهم من ذلك إسلام أهل مكة الذي كان باطلا، فلم يدخل منهم أحد إلا بجوار أو مستخفيا، فكان من قدم/ منهم فأقام بها حتى هاجر إلى المدينة شهد معه بدراً وأحداً، فذكر منهم عبد الله بن مسعود‏.‏

وهؤلاء يجيبون عن حديث زيد بن أرقم بجوابين‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه يحتمل أنه كان نهى عنه متقدماً ثم أذن فيه، ثم نهى عنه لما نزلت الآية‏.‏

الثاني‏:‏ أنه يحتمل أن يكون زيد بن أرقم ومن كان يتكلم في الصلاة لم يبلغهم نهى النبي صلى الله عليه وسلم، فلما نزلت الآية انتهوا‏.‏

فأما القول الأول فضعيف لوجوه قاطعة‏.‏

منها‏:‏ أن حديث ابن مسعود صحيح صريح، وقد علم بالتواتر عند أهل العلم أن ابن مسعود شهد بدراً، وهو لما رجع من الحبشة أخبر أنه سلم على النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه لم يرد عليه بعد ما كان يرد عليهم قبل أن يذهبوا إلى الحبشة، وأنه قال لهم‏:‏ ‏(‏إن في الصلاة لشغلا‏)‏، وفي رواية‏:‏ ‏(‏إن الله يحدث من أمره ما شاء وإن مما أحدث ألا تتكلموا في الصلاة‏)‏‏.‏

/الثاني‏:‏ أن أبا هريرة لم يصحب النبي صلى الله عليه وسلم ولم يُصلِّ خلفه إلا بعد عام خيبر باتفاق أهل العلم، كما ثبت ذلك في الأحاديث الصحيحة، وهو أشهر من روي حديث ذي اليدين، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم صلي تلك الصلاة بهم، كما في الصحيحين عنه قال صلي رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إحدى صلاتي العشي الظهر أو العصر‏)‏ فعلم أنها لم تكن قبل عام خيبر، بل بعد فتح خيبر‏:‏ فكيف تكون قبل بدر‏؟‏ بل خيبر بعد الخندق، فلو ثبت أن الكلام لم يحرم إلا عام الخندق لكان حديث ذي اليدين بعد ذلك فلا يكون منسوخا‏.‏

الثالث‏:‏ أن من رواة حديث ذي اليدين عمران بن حُصَين كما رواه مسلم وغيره، قالوا‏:‏ وإسلام عمران كان بعد بدر، وقد روي نحواً منه أهل السنن من حديث معاوية بن خُدَيْج، وقد قيل‏:‏ إنه أسلم قبل موت النبي صلى الله عليه وسلم بشهرين، وقد روي حديث ذي اليدين كما رواه أبو هريرة وعبد الله بن عمر، رواه أهل السنن قالوا‏:‏ وإسناده على شرط الصحيح، وابن عمر قبل بدر كان صغيراً، فإنه عام أحد كان ابن أربع عشرة سنة، ولا يكاد ابن عمر يروي ما كان حينئذ ـ مما كان مثل ذلك ـ كما لم يرو حديث بناء المسجد ونحوه‏.‏

/الرابع‏:‏ أن قولهم‏:‏ذواليدين قبل بدرٍ، غلط، قالوا‏:‏فإن المقتول ببدر هو ذو الشمالين، هو ابن عمرو من نضلة بن عبسان، حليف لبني زهرة من خزاعة، قتل ببدر‏.‏ وأما ذو اليدين فاسمه الخرباق، ويكني أبا العريان، بقي بعد النبي صلى الله عليه وسلم، وروي حديثه في السهو كما ذكره عبد الله بن أحمد في مسند أبيه، عن نصر عن معدي بن سليمان ثقة، قال‏:‏ أتيت مطراً لأسأله عن حديث ذي اليدين فأتيته فسألته، فإذا هو شيخ كبير لا ينفذ الحديث من الكبر، فقال ابنه شعيب‏:‏ بلي يا أبت، حدثتني‏:‏ أن ذا اليدين لقيك بذي خشب فحدثك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلي بهم إحدي صلاتي العشي وهي العصر ركعتين، ثم سلم فخرج سرعان الناس، فقالوا‏:‏ قصرت الصلاة ـ وفي القوم أبو بكر وعمر ـ فقال ذو اليدين‏:‏ أقصرت الصلاة أم نسيت‏؟‏ فقال‏:‏ ‏(‏ما قصرت الصلاة ولا نسيت‏)‏ ثم أقبل على أبي بكر وعمر فقال‏:‏ ‏(‏ما يقول ذو اليدين‏؟‏‏)‏ فقالا‏:‏ صدق يا رسول الله، فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم وثاب الناس؛ وصلي بهم ركعتين ثم سلم؛ ثم سجد سجدتي السهو‏.‏

ورواه عبد الله بن أحمد ـ أيضاً ـ عن محمد بن المثني، عن معدي بن سليمان، عن شعيب بن مطر، ومطر جاء من يصدقه بمقالته‏.‏ وهذا السياق موافق لسياق أبي هريرة وابن عمر في أن السلام كان/من ركعتين، وفي حديث عمران أنه من ثلاث، وكذلك في حديث رافع، وفيه الجزم بأنها العصر، كما في حديث عمران وغيره، وهل كانت القصة مرة أو مرتين‏؟‏ هذا فيه نزاع ليس هذا موضعه‏.‏

والمقصود هنا‏:‏ أنه إذا ثبت أن حديث ذي اليدين محكم، ثبت به أن مثل ذلك الكلام والفعال لا يبطل الصلاة، وهنا أقوال في مذهب أحمد وغيره‏:‏ فعنه أن كلام الناسي والمخطئ لا يبطل، وهذا قول مالك والشافعي، وهو أقوي الأقوال، ومما يؤيده حديث معاوية بن الحكم السلمي لما شمت العاطس في الصلاة، فلما سمعه النبي صلى الله عليه وسلم قال له‏:‏ ‏(‏إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الآدميين‏)‏ ولم يأمره بالإعادة، وهذا كان جاهلا بتحريم الكلام‏.‏ وفي الجاهل لأصحاب أحمد طريقان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنه كالناسي‏.‏

والثاني‏:‏ أنه لا تبطل صلاته وإن بطلت صلاة الناسي؛ لأن النسخ لا يثبت حكمه إلا بعد العلم بالناسخ‏.‏

وهذا الفرق ضعيف هنا؛ لأن هذا إنما يكون فيمن تمسك بالمنسوخ ولم يبلغه الناسخ كما كان أهل قباء، وأما هنا فلم يكن بلغه المنسوخ/ بحال، فالنهى في حقه حكم مبتدأ، لكن هل يثبت الحكم في حق المكلف قبل بلوغ الخطاب‏؟‏ فيه ثلاثة أقوال لأصحاب أحمد وغيرهم‏:‏

أحدها‏:‏ أنه يثبت مطلقاً‏.‏

والثاني‏:‏ لا يثبت مطلقا‏.‏

والثالث‏:‏ الفرق بين الحكم الناسخ والحكم المبتدأ‏.‏

وعلى هذا يقال‏:‏ الجاهل لم يبلغه حكم الخطاب، وقد يفرق بين الناسي والجاهل‏:‏ ألا تري من نام عن صلاة أو نسيها فإنه يعيدها باتفاق المسلمين‏؟‏ وكذلك من ترك شيئا من فروضها نسياناً ثم ذكر قبل أن يذكر أنه صلي بلا وضوء، أو ترك القراءة أو الركوع ونحو ذلك فإنه يعيد‏.‏ وأما من نسي واجباً كالتشهد الأول، فإنه يسجد قبل السلام، فإن تعمد تركه ففي بطلان صلاته وجهان‏:‏ أشهرهما‏:‏ تبطل، ولو نسيه مطلقا لم تبطل صلاته، فهنا قد أثر النسيان في سقوط الواجب مطلقا‏.‏

وأما الجاهل فلو صلي غير عالم بوجوب الوضوء من لحم الإبل، أو صلي في مباركها غير عالم بالنهى ثم بلغه، ففي الإعادة روايتان، لكن الأظهر في الحجة أنه لا يعيد، كما قد بسطناه في غير هذا الموضوع‏.‏

/ومما يقرر هذا في كلام الجاهل في الصلاة أحاديث‏:‏

منها‏:‏ حديث ابن مسعود حديث التشهد المستفيض‏:‏ إنه قال‏:‏ كنا نقول في الصلاة‏:‏ السلام على الله من عباده، السلام على جبريل وميكائيل، السلام على فلان وفلان‏.‏ فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، وقال‏:‏ ‏(‏إن الله هو السلام‏)‏، ولم يأمرهم بإعادة الصلوات التي قالوا ذلك فيها، مع أن هذا الكلام حرام في نفسه، فإنه لا يجوز أن يدعي الله بالسلام، بل هو المدعو، ولما كانوا جهالا بتحريم ذلك لم يأمرهم بالإعادة‏.‏ ومن ذلك الأعرابي الذي قال‏:‏ اللهم ارحمني ومحمداً ولا ترحم معنا أحداً، وقال‏:‏ ‏(‏لقد تحجرت واسعاً‏)‏ يريد رحمة الله‏.‏ وهذا الدعاء حرام، فإنه سؤال الله ألا يرحم من خلقه غيرهما‏.‏ ومن ذلك قول القائل ـ لما صلي بهم أبو موسي‏:‏ أقرنت الصلاة بالبر والزكاة‏؟‏ فقال أبوموسي‏:‏ يا حطان، لعلك قلتها‏؟‏ فقلت‏:‏ ما قلتها ولقد خشيت أن تنكعني بها، ولم يأمرني أبو موسي بالإعادة‏.‏

وعلى هذا، فكلام العامد في مصلحتها فيه روايتان عن أحمد‏:‏

إحداهما‏:‏ يجوز‏.‏ وهو قول مالك‏.‏

والثانية‏:‏ لا يجوز‏.‏ وهو قول الشافعي‏.‏

/وفيه رواية ثالثة‏:‏ أن الكلام يبطل إلا إذا كان لمصلحتها، سواء كان عمداً أو سهواً‏.‏

وفيه رواية رابعة‏:‏ إلا لمصلحتها سهواً، وهو اختيار جدي‏.‏

وفيه رواية خامسة‏:‏ تبطل إلا صلاة إمام تكلم لمصلحتها؛ سواء كان عمداً أو سهواً‏.‏

ومنشأ التردد أنه تكلم ذو اليدين ابتداء، وتكلم جواباً للنبي صلى الله عليه وسلم بقوله‏:‏ بلي قد نسيت‏:‏ بعد قول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لم أنس ولم تقصر‏)‏، وتكلم النبي صلى الله عليه وسلم بذلك وبقوله‏:‏ ‏(‏أحق ما يقول ذو اليدين‏؟‏‏)‏ وتكلم المخاطبون بتصديق ذي اليدين فقيل‏:‏ إنما جاز ذلك لكونه لم يعتقد أنه في الصلاة، وكذلك ذو اليدين سؤاله له هو بمنزلة سلامه والمؤمنين معه اتباعاً له، فإنهم لم يكونوا يعلمون أنه نسي، بل جوز أن تكون الصلاة قصرت، وكذلك سائر الصحابة لو علموا أنه نسي وأن متابعة الناسي في السلام لا تجوز، لسبحوا به، لكن لم يعلموا بجميع الأمرين قطعاً، بل جوزوا أحدهما أو كلاهما، بل كانوا يعتقدون وجوب المتابعة له في الصلاة مطلقاً حتى يتبين لهم‏.‏

فقيل لهؤلاء‏:‏ فالمصلون أجابوه بتصديق ذي اليدين مع علمهم بأنها لم تقصر وأنه نسي، فظن بعضهم ذلك؛ لأن جوابه واجب لا يبطل الصلاة لحديث سعد بن المعلى، وظن اَخرون أن ذلك لمصلحة الصلاة فجوزوا الكلام لمصلحة الصلاة عمداً، وظن آخرون أن ذلك إنما كان سهواً لأنهم لم يكونوا يعلمون أنه قد بقي عليهم بقية من الصلاة، وإن من بقي عليه بقية لا يتكلم‏.‏

ثم قال آخرون‏:‏ هذا الكلام وكلام النبي صلى الله عليه وسلم وذي اليدين مع كون ذلك سهواً، فإنما كان لمصلحة الصلاة، والمقصود هنا أن من تكلم في صلب الصلاة عالماً أنه في صلاته بنحو هذا سهواً وعمداً لمصلحة الصلاة‏:‏ هل يكون بمنزلة هذا‏؟‏ هذا فيه قولان في مذهب أحمد وغيره‏.‏ فمن لم يسو بينهما قال‏:‏ هذه الحال لم يكونوا في صلاة لخروجهم منها سهواً، وإن كانوا في حكمها كما ذكرنا، فلهذا شاع هذا‏.‏ ومن يسوي بينهما قال‏:‏ سائر محظورات الصلاة هي في مثل هذه الحال كما هي في الصلاة نفسها فإن التفريق هنا إنما جاز لعذر السهو فلا يفيد فعل شيء مما ينافي الصلاة؛ ولهذا اتفقوا على أنه إذا تعمد في مثل هذه الحال ما يبطل الصلاة لغير مصلحة، بطلت صلاته، وإن كانت لا تبطل إذا فعل ذلك بعد سلام الإمام؛ وذلك أن المصلي صلي الصلاة وترك منافيها، فإذا عفي عنه في أحدهما لعذر لم يجز أن يعفي عنه في الآخر لغير عذر، كما لو زاد الفعل عمداً فإنه بعد/ الذكر لو أطال الفصل عمداً، لم يكن له البناء، بل يبتدئ الصلاة ولهذا لو فعل منافيها سهواً ـ من كلام أو عمل كثير ونحو ذلك ـ لم يكن له مع ذلك أن يفرقها عمداً‏.‏

فتبين بهذا كله وجوب الموالاة في الصلاة إلا في حال العذر المسوغ لذلك، فالوضوء أولي بذلك‏.‏

فإن قيل‏:‏ فما تقولون في الغسل‏؟‏

قيل‏:‏ المشهور عند أصحاب أحمد‏:‏ الفرق بينهما‏.‏ وعمدة ذلك ما روي‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم ‏(‏رأي على يده لمعة لم يصبها الماء فعصر عليها شعره‏)‏‏.‏ وعن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم اغتسل من جنابة فرأي لمعة لم يصبها الماء فقال بجمته فبلها عليها، رواه أحمد وابن ماجة من حديث أبي على السروجي‏.‏ وقد ضعف أحمد وغيره حديثه‏.‏ وروي ابن ماجه عن على قال‏:‏ جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ إني اغتسلت من الجنابة فصليت الفجر ثم أصبحت فرأيت موضعا قدر الظفر لم يصبه ماء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لو كنت مسحت عليه بيدك أجزأك‏)‏ وعن ابن مسعود أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الرجل يغتسل من الجنابة فيخطئ بعض جسده‏؟‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏/‏(‏يغسل ذلك المكان ثم يصلي‏)‏‏.‏ رواه البيهقي من رواية عاصم بن عبد العزيز الأشجعي، قال البخاري‏:‏ فيه نظر‏!‏ وقال ابن حبان‏:‏ يخطئ كثيراً‏.‏ وقال الدارقطني‏:‏ ليس بالقوي‏.‏

والفرق المعنوي‏:‏ أن أعضاء الوضوء متعددة يجب فيها الترتيب عندهم، فوجبت فيها الموالاة، والبدن في الغسل كالعضو الواحد، لا يجب فيه ترتيب فلا يجب فيه موالاة ـ أيضاً ـ فإن حكم الوضوء يتعدي محله، فإنه يغسل أربعة أعضاء فيطهر جميع البدن، وأما الجنابة فتشبه إزالة النجاسة، لا يتعدي حكمه محله‏.‏ فكل ما غسل شيئاً ارتفع عنه الجنابة، كما ترتفع النجاسة عن محل الغسل، فإذا غسل بعض أعضاء الوضوء لم يرتفع شيء من الحدث، لا عنه ولا عن غيره بدليل أنه لا يباح له مس المصحف به‏.‏

وقد يقال‏:‏ هذا لا يؤثر في الموالاة، فإن وجوب الموالاة في الشيء الواحد أقوي من وجوبها في الاثنين، بخلاف الترتيب، فإنه لا يكون إلا بين شيئين ولابد أن يكونا مختلفين؛ إذ المتماثلات ـ كالطوافات والسعيات ـ لا يكون بينهما ترتيب، ولهذا لم يجب الترتيب عند أحمد ومالك في الركعات، بل من نسي ركناً من ركعة فلم يذكر حتى قرأ في الثانية‏:‏ قامت مقامها، وغسل الجنابة عبادة واحدة، الاتصال فيها أظهر منه في الوضوء، وهي عبادة في نفسها / تعتبر لها النية، بخلاف إزالة النجاسة فإنها لا تتعين لها النية إلا في وجه ضعيف، التزموه في الخلاف الجدلي، كما ذكره أبو الخطاب ومن تبعه وليس بشيء، فيمكن أن يقال‏:‏ الموالاة فيهما واحدة‏.‏

وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد عصر على اللمعة بعد جفافها في الزمن المعتدل، وأن الوضوء لا يجوز فيه ذلك، فالفرق أن تارك اللمعة في الرجل مفرط بخلاف المغتسل من الجنابة فإنه لا يري بدنه كما يري رجليه، فاللمعة إذا كانت في ظهره أو حيث لا يراه ولا يمكنه مسه كان معذوراً في تركها‏.‏ فلهذا لم تجب فيه الموالاة، بخلاف ما لا يعذر فيه، والله أعلم‏.‏

وعلى هذا، فلو قيل بسقوط الترتيب بالعذر لتوجه، وقد يخرج حديث تأخير المضمضة والاستنشاق عن غسل الوجه ـ وهو إحدي الروايتين المنصوصتين ـ على هذا، وأن تاركهما لم يعلم وجوبهما فكان معذوراً بالترك، فلم يجب الترتيب في ذلك، بخلاف من لم يعذر كمنكس الأعضاء الظاهرة، ولكن نظيره حديث العهد بالإسلام، إذا اعتقد أن الوضوء غسل اليدين والرجلين فغسلهما فقط، أو من ترك غسل وجهه أو يديه لجرح أو مرض وغسل سائر أعضاء الوضوء ثم زال العذر قبل انتقاض الوضوء، فهنا إذا قيل‏:‏ يغسل ما ترك أولا ولا يضره ترك الترتيب، كان متوجهاً على هذا الأصل‏.‏ والله أعلم‏.‏